السياحة ومفهوم التنمية المحلية

د. مشاري بن عبدالله النعيم

ربما تكون شهادتي في هيئة السياحة مجروحة فأنا انتمي لهذا القطاع وأعمل به، ولكن من الضروري أن أعلق احيانا على ما أراه من إصرار على أن تصبح السياحة هي الرافد الأهم في مجال التوظيف على المستوى المحلي، فهناك مثلا من يخلط بين القطاعات الاقتصادية الكبرى التي لا تحتاج إلى عدد كبير من الموظفين مثل قطاع النفط مثلا وبين القطاعات الاقتصادية المتوسطة والتي تتطلب مهارات أقل وتغوص عميقاً في البنية الاجتماعية وتحقق الاستقرار المحلي مثل قطاع السياحة الذي يعتبر مجالا خصبا لتوظيف عدد كبير من الناس في مجالات متعددة وبمهارات مقبولة يمكن أن تتطور مع الوقت وباستثمارات بسيطة لا تصل بأي حال من الأحوال للقطاعات النفطية أو الصناعية لكنها توفر فرص عمل أكثر من هذه القطاعات. الاستقرار الاقتصادي مرتبط بالعائد الوطني وبفرص العمل للمواطنين، والسياحة يمكن أن تساهم بشكل كبير في توفير فرص العمل.

أنا شخصيا أربط الاستقرار الاجتماعي القادم بتطور السياحة في بلادنا لأنها تمثل “حلاً” وطنياً لمشكلة البطالة، وهذه الرؤية ليست مجاملة لهيئة السياحة بل هي حقيقة فلو عدنا إلى مجالات العمل التي تشملها السياحة سوف نجد أنها تغطي عددا كبيرا من المهن والحرف والصناعات ويمكن أن تشارك فيها الشركات الكبرى والشركات المتوسطة والصغيرة والأعمال التي تعتمد على الأسر المنتجة بالإضافة إلى الأفراد. وهذا في حد ذاته يفتح الأبواب واسعة أمام كل من يرغب في إيجاد باب رزق أن ينخرط في هذا القطاع الكبير والمهم، خصوصا وأن هيئة السياحة والآثار توفر فرص التدريب كما أن هناك توسعاً في فتح كليات السياحة التقنية والانفتاح غير المسبوق على المستوى الأكاديمي من خلال فتح كليات السياحة الآثار في جامعات المملكة.

أعود لأؤكد على أن ما يميز السياحة هو أنها توفر فرص عمل مباشرة وغير مباشرة، وأذكر مثلا أنني عندما زرت منطقة “كابادوكيا” في تركيا وجدت أن الفنادق صغيرة الحجم وهي مرممة من الكهوف المحفورة في الجبال وعدد الغرف تتراوح بين 8 و40 غرفة ويدير هذه الفنادق الأسر التي تملكها ويعمل افراد العائلة فيها ويعاونهم بعض العاملين المحليين. وفي زيارتي الأخيرة لأسبانيا وجدت أن كثيرا من الحرف التي تصنعها الأسر في بيوتها تعرض للبيع في المحلات المنتشرة في مدينة قرطبة التاريخية ويقتنيها السياح بكثرة. فرص العمل المباشرة البعيدة عن ذهنية “التوظيف الحكومي” متوفرة بشكل قوي في قطاع السياحة كما أن الأعمال غير المباشرة تمثل المجال الأوسع الذي يمكن للعديد من الحرفيين والفنانين بيع منتجاتهم في المناطق التي يرتادها السياح. فمثلا تعودت أن أشتري بعض الأعمال اليدوية النسيجية من إسطنبول واكتشفت مع مرور الوقت أن المحل الذي اشتري منه يعتمد على مجموعة من الأسر في توفير جميع بضاعته وهو يعمل معهم على تطوير المنتج باستمرار وفهم رغبات السوق وعكسها في المنتج الحرفي.

سؤالي هو ما الذي يمنع أن نجعل من السياحة لدينا فرصة “استقرار” اجتماعي واقتصادي، وانا هنا لا أتوهم انه يوجد لدى هيئة السياحة العصا السحرية التي سوف تحل بها جميع مشاكلنا، ولكن بكل تأكيد هناك فرصة سانحة أن يساهم قطاع السياحة في “التنمية المحلية”، فالدولة استثمرت مليارات الريالات في انشاء الجامعات المحلية وتعمل على تطوير مدن صناعية واقتصادية حتى تحقق الاستقرار المحلي، وربما آن الأوان أن تفكر بجد في أن تعطي السياحة فرصة من خلال العمل على تعزيز البنية التحتية لمشاريع السياحة وتطوير الانظمة والقوانين التي تجعل من العمل في قطاع السياحة سلساً وممكناً والأهم من ذلك إنشاء صندوق التنمية السياحية الذي أرى أنه سيكون علامة فارقة على مستوى التنمية الاقتصادية والاجتماعية المحلية، فهو صندوق “مستدام”، وعندما أقول إنه مستدام فأنا أعني ذلك كونه سيصب مباشرة في تطوير اعمال متفاوتة المستويات تهتم بالدرجة الأولى بإيجاد فرص عمل للمواطنين سواء من خلال الانتفاع من الصندوق مباشرة أو الاستفادة من المشاريع الكبيرة التي سوف يتيحها الصندوق وستشجع بجانبها مشاريع متوسطة وصغيرة يملكها المواطنون المحليون.

البعض يقول إننا في المملكة مازلنا نحتاج إلى ثقافة السياحة، وأنا لا أنكر هذا القول ابداً ولكن السياحة بالتجربة وليس بالكلام، وكلنا نعرف التحولات الكبيرة التي مرت على المملكة خلال الثلاثة عقود الأخيرة حيث تحولت مناطق منغلقة ومعزولة إلى مناطق ترحب بالسياح ويعمل أبناؤها في تقديم الخدمات لضيوف مناطقهم. وإذا ما أردنا أن نبقي على التركيبة السكانية المتوازنة للمملكة وتقليل الهجرات الداخلية التي شهدتها المملكة خلال العشرين سنة الماضية والمحافظة على البنية الثقافية للمملكة يجب أن يكون لدينا خطة خمسية وطنية للسياحة موازية أو تكون جزءاً من خطة التنمية التي تبنتها الدولة منذ مطلع السبعينات الميلادية، فهذه الخطة سوف أسميها “خطة الاستقرار الاجتماعي الوطني” لأنها فعلا ستساهم في الاستقرار الاجتماعي/ الاقتصادي على مستوى المناطق وسوف تعزز التنمية المحلية بشكل متوازن بالاضافة طبعا إلى كل ما تقوم به الدولة من مشاريع تنموية وتعليمية ليكون لدينا رؤية محلية قابلة للتحقيق ومؤثرة فعلا.

جريدة الرياض 

Shopping Cart
Scroll to Top