وحين تفسد الأمم


الكاتب أ.خالد النعيم

وحين تفسد الأمم

آخر تحديث: 07 / 02 / 1435 تعليقات: 0


أين الملوك التـي كانـت مسلطنـة … حتى سقاها بكأس المـوت ساقيهـا
فكم مدائن فـي الآفـاق قـد بنيـت … أمست خرابا وأفنى المـوت أهليهـا
العصماء – علي بن أبي طالب

وكُل ما لم يدركه بصري كان مجال بحثي وشغفي المستديم، وها أنا ذا أبلغ السادسة والعشرين ولم تبلغ الإجابات حدود المدى لإقناعي وإرضائي، فكان شغفي المهووس بغيبيات الأحداث مصدر عنائي وشقائي. ولم أُبحر ببحثي إلى شواطئ المستقبل فهذا طمع في غير مطمع ورغبة في مستحيل؛ فالمستقبل من علم الله وحده وما أنا بنبي ولا من أصحاب الكرامات ولا حول لي ولا قوة على ذلك، فحاولت الإبحار بعكس اتجاه الرياح متجهاً لأحداث الماضي السحيق لأرى نفسي أمام ضباب مُطلق. وددت لو استطعت أن أرى ما لم تره العيون البشرية قط، أردت رؤية ما يُبصره الماضي في عيون أمَمِها، وددت لو تمكنت من السير في طرقهم، بيوتهم، موانئهم، بساتينهم، وقبورهم، وقد أردت أن أحيط بما في نفوسهم من صلاح وفساد، حب وكراهية، صدق ونفاق. وحين علمت بما في كتب التاريخ من تزوير واسرائيليات صِرت أنظر إلى كتبي نظرة المُستريب المُتشكك، فكنت دائماً ما أتساءل كيف يكون لسرد قصة تاريخية مئة رواية مختلفة في ظاهرها ومضمونها حتى تأكدت بأنه يستحيل وصف المشاهد بالأقلام والأوراق؛ فلكل مؤرخ مرويّة تتحدث عما في نفسة أولاً وعن المشهد وملحقاته وهوامشه التفصيلية ثانياً أو ثالثاً. كفرت بكثير من كتبهم الملوثة بالأنا الذاتية ووجدت لي مع العلم حديثاً آخر. فذلك آينشتين العجوز الألماني الأصل درس الضوء والمسافات التي يقطعها وكيفية انكساره، وفهمت مما تعلمته من نتائجه بأنه كلما ابتعدت عن مصدر الضوء أو عاكساته كلما زاد وقت وصول هذا الضوء لي. فلو كنت في القمر وأنت في الأرض فقد تراني بالتيليسكوب نائماً وأنا في الحقيقة أقوم بتشكيل بيت رملي على سطحه الأبيض، مما يُستنتج بأنك تراني قبل عشر دقائق مما أقوم به فعلاً. 
 
   عجبت مما قاله العجوز وقررت الذهاب بنفسي إلى كوكب بعيد مترامٍ في أطراف اللامعلوم، وكان معي تيليسكوب ذهبي حديث ورأيت مالم تره عينا بشر، فذا كوكبنا الأرض هناك وقد تبدّلت ملامحه! فلم تكن هناك سدود ولا نواطح سحاب، ولم تكن هناك قطارات أو مطارات، وكانت ملابس الناس مختلفة ومُغْبرّة، فتلك الخُوَذ الحديدية وهذه السيوف المائلة والدروع المزخرفة والمجانيق المُخزنة لا توحي لي بأنهم في القرن الحادي والعشرين بل كانوا في قرنٍ عتيق بدا لي بأنه القرن الثاني عشر. وحين توجهت بنظري إلى عاصمة الإسلام بغداد رأيت لوناً أحمر يكاد يفور من الغيظ. فتلك هي صفوف لا تنتهي من جيوش المغول التي ثارت وحشيتهم على براءة الأطفال وغنج النساء وروح الشباب وحكمة العجائز، فلم تعد البراءة إلاّ بكاءً مؤلماً، والغنج هتكاً بلا شرف، والروح تُشنق حتى تموت، والحكمة جهل لا يُطاق. ورأيت هولاكو وهو يحاور مشايخ بغداد ويخيرهم بين السلطان العادل الكافر أو السلطان المسلم الجائر. وكانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها الإسلام يتم إدراجه في معادلة من العيار الثقيل، وماهي إلا أيام حتى جاء الرد بتفضيل السلطان العادل الكافر. فقد كان في ذلك الوقت يُقال لأحد حكّام المسلمين بأن إحدى دول الإسلام تستنجد وتطلب الإعانة فيفور غاضباً لأنهم قطعوا عنه عرضاً لمصارعة الديكة!.. واحسرتاه على إسلام هؤلاء وواحسرتاه على المسلمين المُطبلين لهم. 

    تساندت الحقائق في داخلي الواحدة تلو الأخرى فعلمت من التاريخ بأن الله لن ولم يُدم الدول الجائرة حتى وإن كانت مسلمة، فهذه هي سُنن الله في خَلقه وكونه، فلا الرسول الكريم ولا الإسلام المنير سيكون شفيعاً للظلم أو الفساد أو التمادي على حقوق الناس. و علمت بأن حلقات التاريخ في حالة دوران مستمرة ولن تستطيع الإفلات منها بمجرد التمني والتخيّل، فلن تفعل إلّا بإزالة مسبباتها، ولو استمرت الأمم في فسادها وظُلمها فسيُقدم لهم من ربهم ما لا تطيقه أنفسهم وفي وقت

غير بعيد. المصدر : مدونة مجموعة جُمل
Shopping Cart
Scroll to Top