عيد الاستهلاك أو مقاومة الاستهلاك

د. مشاري بن عبدالله النعيم

الكل يشتكي من غلاء الأضاحي هذا العام فقد لامس سعر “الخروف” الألفي ريال، وهذه ظاهرة تنبئ بالمزيد من “الاسغلال” والمتاجرة بالعيد في المستقبل، فليستعد كل واحد منا لبناء حوش أغنام في منزله في المستقبل لمواجهة هذه الظاهرة، فقد تحولت هذه الشعيرة إلى فرصة للبعض كي يتاجر بالعيد وأن يزيد من الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها كثير من الأسر.

أذكر منذ فترة بعيدة أنني قرأت كتابا حول “الهوية والاستهلاك” وهو يركز على كيفية تشكل هوية المجتمعات من خلال أنماط استهلاك فئاتها، وكان يركز بشكل عام على المناسبات الدينية والوطنية التي تحولت إلى مناسبات استهلاكية تعمل من أجلها مصانع في جميع انحاء العالم من أجل توفير السلع التي تستهلك في هذه المناسبات.

تطور الانماط الاستهلاكية في الأعياد على وجه الخصوص، وظهور مهن تسوق لهذا الاستهلاك حولا مجتمعنا البسيط والمتدين إلى مجتمع يتباهى بما ينفقه على مناسبة العيد دون أن يشعر فعلا بقيمة العيد الذي فقد نكهته وحضوره نتيجة لتصاعد الثقافة الاستهلاكية وتحوله إلى “مظهر إجتماعي” بدلًا من أن يكون “مشاركة اجتماعية”. في اعتقادي أن هذا التوجه له مخاطره الاجتماعية الكبيرة فهو يعمق الهوة بين طبقات المجتمع وربما نشهد في السنوات القادمة طبقة لا تستطيع أن تحتفل بالعيد مثل نظيراتها التي لديها المقدرة المالية على الانفاق.

هل هذا مؤشر فعلي لاضمحلال الطبقة المتوسطة في المملكة وأقصد هنا “تفاقم الانماط الاستهلاكية” في المجتمع السعودي واستشرائها دون أن يكون هناك توجه على المستوى الثقافي وحتى الرسمي لترشيدها وإدارتها؟

هل هذه الفوضى الاستهلاكية تنذر بسقوط عدد أكبر من فئات المجتمع تحت خط الدخل المتوسط، أم أن التحول في نمط الاستهلاك هو حالة طبيعية وسنة كونية لايمكن إيقافها والتصدي لها؟

في اعتقادي أنه لايمكن أن نسلّم بأن الاستهلاك يمثل “قاعدة” إنسانية لايمكن مواجهتها، بل إن العالم بأسره يحاول أن يقاوم هذه الظاهرة لأنها ضد الاستدامة وتزيد من المشاكل التي تواجهها الانسانية وتستهلك الموارد بسرعة كبيرة لا تتناسب مع تزايد عدد السكان ولا مع الموارد الناضبة على الأرض. ثقافة العصر تقوم على تشجيع “الاكتفاء الذاتي” وإدارة الموارد، خصوصا وأن ثقافة الاستهلاك يقف وراءها سماسرة عالميون، هدفهم الكسب وتروج لها شركات عابرة للقارات تريد أن تنتج السلع وتستمر في انتاجها ويجب أن يكون هناك مستهلكون لهذه السلع. ولكن كيف وصلت هذه الافكار لتجار “الأضاحي” ولماذا يستغل هؤلاء هذه المناسبة بهذا الجشع، وكيف نسمح لهم بذلك.

المشكلة الكبيرة هي في “التراخي المجتمعي”، أي أن المجتمع نفسه لا يحاول أن يصحح من وضعه بنفسه وينتظر السلطة أن تقوم بهذا الدور عنه، ولو أن المجتمع مارس سلطة، كما حدث مثلا عندما رفعت شركات الألبان اسعارها، لما تمادى البعض في استغلال العيد.

في اعتقادي أن العيد يمكن أن يعلمنا كيف نعيد تشكيل قوتنا الاجتماعية وكيف نستثمرها ونستخدمها في الوقت المناسب. يمكن أن يعلمنا “الترشيد” ويعلمنا كيف نقاوم الاستهلاك المفرط ونبتعد عما لا نحتاج له. من المفترض أن العيد يقودنا إلى مشاركة الآخرين والشعور بهم وبحاجاتهم ويدفعنا إلى الاحتفال معهم بدلا من أن نميز أنفسنا عنهم. العيد فرصة للمراجعة والتجديد، وتساؤل المتنبي ربما يكون له مكان هنا فقد قال :

عيد بأية حال عدت يا عيد      بما مضى أم لأمر فيك تجديد

المؤسف هو أن العيد صار يأتي بالجديد وغير المتوقع كل عام، لكنه الجديد السلبي الذي يضغط على المجتمع ويحوله إلى مجتمع جشع وأناني، بينما يفترض أن العيد يأتي بتجديد “تصحيحي”، فالغلاء والأنانية والجشع وحب الذات التي صارت تأتينا بها أعيادنا ماهي إلا الرماد الذي نراه بأعيننا أما النار فهي كامنة داخل المجتمع بكل فئاته. الخراب الاخلاقي الذي يطفو على السطح أحيانا وفي المناسبات، ما هو إلا حمم بركانية متقطعة أما مكمن النار فهو في مركز المجتمع، يحرقه من الداخل ويحوله إلى مجتمع جشع تتراجع فيه الاخلاق وتنمو فيه الثقافة الاستهلاكية لتسيطر على كل عمل نقوم به في المستقبل حتى لو كان ضد المبادئ.

هل يحق لنا أن نقول إن مناسبة العيد ما زالت مؤثرة في النفوس، هل فئة الشباب على وجه الخصوص يشعرون بهذه المناسبة، التي تحولت إلى مجرد “استعراض” و “استغلال”؟! سوف أتحدث عن المجتمع القريب مني، وهم أولادي وابناء إخوتي وأخواتي، وأؤكد هنا أن هذه المناسبة لم تعد تعني الكثير بالنسبة لهم، ربما لأنها فقدت معناها، وقيمتها، بينما يفترض أن يصنع العيد “ثقافة اجتماعية” متواصلة، ومن المعروف في الدراسات “الإثنوغرافية” أن الشعائر الموسمية، مثل الأعياد عادة ما تتشكل حولها عادات وتقاليد مجتمعية تتوارثها الاجيال وتتحول إلى جزء من الهوية الاجتماعية التي يحرص عليها الجميع، حتى لو تحولت إلى مناسبات استهلاكية (مثل عيد الميلاد). الصورة الطبيعية التي يتحدث عنها علماء الانسان، انه من الصعوبة أن يتخلى أي مجتمع عن عاداته وتقاليده المرتبطة بالشعائر الموسمية، لكن في حالتنا أصبحنا نتفلت من عاداتنا التاريخية في الاعياد، فالمسألة لم تقف عند طغيان الثقافة الاستهلاكية في هذه المناسبات بل إنها تكمن في تخلي الاجيال الشابة عن الاهتمام بهذه المناسبات المهمة. ربما يكون هذا نتيجة لتصاعد تكلفة العيد التي لا يقدر عليها الشباب وربما لتخلي الجيل المتوسط (الذي أنتمي إليه) عن كثير من مظاهر العيد المهمة فأصبح العيد، بالنسبة للجيل الذي تربى على يدي وفي بيوت جيلنا المتوسط، يوما عاديا لا طعم له ولا لون ولا رائحة.

أتذكر في الأيام الخوالي (وهي أيام ليست بعيدة بل هي في الثمانينيات من القرن الماضي) أننا كنا نشتري الاضحية بثلاثمائة أو اربعمائة ريال وكنا نأتي بها إلى البيت واقوم أنا بمعاونة عمي على الذبح والسلخ وكان العيد يعني لي الشيء الكثير فهو يوم يبدأ بممارسة فعلية لشعائر العيد، بعد صلاة العيد طبعا. كما أنني أذكر أنه منذ أن تأسست مسالخ البلدية منذ مطلع التسعينيات تقريبا وهذه الممارسة في تراجع حتى أن الجيل الحالي لا يعرف معنى “الأضحية” ولا يشعر بها. أعتقد أن تخلينا عن كثير من التقاليد والاعراف التي مارسها أباؤنا وأجدادنا أفقدنا فرحة العيد وجعلنا نركز على “الاستهلاك” المصطنع الذي هو نوع من المباهاة والبحث عن التميز على الآخر وهو ما يخالف روح العيد التي تبحث عن المساواة والفرح المشترك. 

جريدة الرياض

Shopping Cart
Scroll to Top