أحمد بن خالد البودعيج النعيم
فما شئتَ كان وإن لم أشأ – وما شئتُ لو لم تشأ لم يكن
~الإمام الشافعي~
على الأخوة المسافرين على الرحلة رقم 34 التوجّه فوراً للقطار رقم 14 من خلال البوّابة رقم 3 و المتّجهة إلى مدينة روما. بعد النداء توجّهت مجموعة من الأشخاص من الطبقة المتوسطة إلى إحدى قاطرات الفئة الغير مُخمليّة. المجموعة مكونة من 4 أشخاص لا يشتركون في صفةٍ أو فكرٍ واحد. ركبوا معاً، وكل شخصٍ توجّه إلى مِقعده مباشرةً إلاّ (خيري) ظلَّ واقفاً طُوال الرحلة! وبذلك اصبح (خيري) فريسةً لنظرات (عُنيصر)، و (عُقيد)، و (مُنيطق). و كلٌّ ينظر إلى (خيري) على هواه، فـ(عُنيصر) المتمرد باشر بمحادثة نفسه عن فعل هذا الأسود الأحمق؛ فكيف يظلُّ وافقاً و المقعد محجوزٌ له، و أطرق قائلاً: “جميع السود حمقى”. بينما (عُقيد) المتهجم أسهب ناظراً إليه و هو مُكشرٌ كعادته قائلاً: “الحمد لله على نعمة الإسلام”. و راح (مُنيطق) يستحقر فِعله كالبقية و قال: “هذا مثال حي لغباء الناس الأفريقيين!”. انتهت النظرات بوصول القطار إلى وجهته المطلوبة. و مَضى كلُّ من في القاطرة إلى حيث يريد.
ما الفرق؟ جميعنا تحدث له مثل هذه الأحداث الغير المهمة، وجميعها تمضي، و نحن نمضي، و الكثير منا يتحدث عن فلانٍ من الناس وكيف كان تصرفه الغريب في المطعم أو في المقهى أو في الشارع، و دائماً ما نتحدث بما تُسوّله لنا عقولنا، فمنا من يرى العِرق، و منا من يرى المذهب، و منا من يرى العمر، و في غالب الأحيان يزداد الأمر قساوةً للحديث عن هذا النوع من الناس في المجالس العامة ليصبح فلان (المُختل) في نظرهم حديثاً للمجلس، بل و الأقسى من هذا كله هو تشهير تصرف (المُختل) بالصور و مقاطع الفيديو و كأنه شخصية جمهورية! بينما هو شخص عادي و لكنه في الحقيقة ليس كذلك. فقد لا يكون كل من تراه و يعمل تصرفات غريبة (مختلاًّ) كـ (خيري) في القطار. بل هو (ميــــزيائي) مختلف. يعيش ضمن إطارات مختلفة عنك و عن السائد من البشر من حوله. و هنا يجدر بي تعريف مصطلح (ميزيائي) لكلِّ من ألحّ عليّ لفهمها سابقاً فهي المذهب الفلسفي الذي يعتبر أن لكل شيء ميزةٌ تميزه عن الأشياء الأخرى. ويستند مبدأ الميزياء إلى قاعدةٍ أساسية هي أن الشيء الذي يملك ميزات أكثر سيملك نجاحاً أكثر في البقاء و الاستمرار. وهذا هو ما يعيشه (خيري) فليس بالضرورة أبداً أن يعمل مثل البقية السائدة من الناس لكي يُصبح طبيعياً، فمقياس الطبيعية مُختلفٌ من قارة إلى قارة ومن دولة إلى دولة بل و من بيت إلى بيت آخر.
و من هنا تأتي الحاجة المُلحة إلى فلسفتي الناشئة (الوحدائية)، و هي المذهب الفلسفي المتناغم مع الميزيائية و مع كل شخص يرى نفسه مميزاً بأعمال تختلف كليّاً عن الجميع، و ذلك عن طريق توحيد جميع نظرات البشر إلى المزيائيين المختلفين و الرائعين بالفعل و ازالة الرؤية العنصرية و العقيدية و المذهبية، ورؤية الجوهر الكامن في داخل الإنسان، و تمييزه فقط عن طريق الخير أو الشر. لا مذاهب و لا عقائد. فقط خيرٌ و شر. و هذه الفلسفة تكتسب قدراتها المتينة ايضاً عند تطبيقها على جميع البشر بلا استثناء. فمسببات الحروب الأهلية و الطبقات الاجتماعية الزائفة ما هي إلا نتائج الابتعاد عن منهج النظرة الواحدة فالكل ينظر على هواه. و بذاك تكثر الإشكالات و المؤامرات.
(الوحدائية) تتناغم كل التناغم مع قوله تعالى “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” {الحجرات:13}. و هنا تكتسب هذه الفلسفة هيمنتها عليَّ شخصياً متأثرةً بوحي الإله عز و جل ومصداقاً لقوانينه الفطرية. فمشاعر البشر تختلف، فمنهم القوي و الذي يستطيع تحمل ما يُقال عنه، ومنهم الضعيف الذي لا يملك القدرة على التحمل و الرد أو التصرّف. و لهذا تأتي هذه الفلسفة كحل مُكمّل لسلوك طريق الحب و السلام بين الموجودات من البشر.