د مشاري بن عبدالله النعيم
ربما يكون من الضروري أن نتحدث عن فلسفة “التجربة والخطأ” ومن المهم أن نفكر بجد في أن نتعلم من تجارب الآخرين، وأن نفهم المعوقات التي مرت بهم والاخطاء التي مروا بها والنجاحات التي حققوها. ولعل هذا ما قامت به هيئة السياحة منذ بداية انطلاقتها، فقد قامت الهيئة خلال العشر سنوات الأخيرة بسبع زيارات استطلاعية من أجل بناء الخبرة في مجال التراث العمراني وكيف يمكن أن نعيده للحياة ونصنع منه محطات سياحية في بلادنا. المثير حقا في هذه الرحلات هو أنها لم تعد لموظفي الهيئة نفسها بل من أجل بناء فريق من الشركاء في المؤسسات الحكومية المرتبطة بعمل هيئة السياحة في مجالات التراث العمراني خصوصا المحافظات والبلديات والامانات (وربما تكون هيئة السياحة والآثار هي المؤسسة الحكومية الأولى التي لديها برنامج لتدريب مسؤولي الادارات الحكومية الأخرى). ربما يعتقد البعض أنها رحلة “ترفيهية”، وربما كنت أحد اولئك الذين يعتقدون ذلك في السابق، لكنني ولأول مرة أشارك في احدى الرحلات الاستطلاعية (وهي الرحلة السابعة) وقد رأيت بأم عيني كيف أنها رحلة عمل مكثف طوال مدة الرحلة، حتى أن الفريق المشارك بالكاد يجد وقتا للنوم ولم يكن هناك وقت مخصص للتسوق إلا أثناء زيارات المواقع نفسها.
الاحتكاك بالتجربة المكانية والاجتماعية والادارية هو جزء اساسي من فلسفة الرحلة الاستطلاعية، فليس من رأى كمن سمع، وكان الهدف هو أن يلتقي فريق الاستطلاع مع من يدير المدن والبلدات التراثية وأن يقيم ما سمعه على أرض الواقع، فليس بالكلام وحده يمكن تحقيق النجاح، كما أنه لا يوجد نجاح مطلق لا تواجهه العوائق والمشكلات، وبالتالي، فإن بناء الخبرة يأتي من هذا التعلم المباشر الذي يحتوي الجانب النظري والميداني. لقد اعتبرت هذه الرحلة “دورة تديبية” والحقيقة أنني سمعت من زملائي في الرحلة أنها توازي (30 دورة تدريبية، والرقم هنا من أجل تعظيم الفائدة التي شعر بها الفريق وليس رقما فعليا) وهذه ليست مبالغة، لأن الاستفادة كانت متعددة الوجوه، فمن جهة تشكل الفريق من كل مناطق المملكة ومن أعضاء لم يلتقوا من قبل ومن جهات حكومية تعمل يوميا في إدارة المدينة بما فيها مناطق التراث العمراني، ومن جهة أخرى احتك الفريق بتجارب مختلفة، فكل بلدة زرناها في تركيا كانت تمثل حالة خاصة بها، والتعامل مع تلك الحالة من قبل مسؤولي البلدة كان مرتبطا بالقدرات المحلية وبالمشاكل التي تعاني منها البلدة والقدرات الاقتصادية لها والخصائص الاجتماعية التي تميزها، وبالتالي تعلم اعضاء الفريق أن كل بلدة يعملون فيها يجب أن تعني لهم “حالة خاصة” وأنه يجب عليهم أن يكتشفوا قدرات بلداتهم وأن يبنوا الحلول من خلال فهم المشاكل المحلية. لذلك فقد كانت الرحلة التركية التي بدأت يوم 3 يونيو 2012م وانتهت يوم 10 من نفس الشهر، وضمت عددا من أمناء ومحافظي ورؤساء البلديات وبعض المسؤولين في هيئة السياحة كانت تهدف إلى بناء جسور معرفية مع تجارب التراث العمراني في تركيا، بحيث تكون هذه المعرفة ضمن الخبرة الخاصة بمسؤولي المدن التراثية في بلادنا، ليس من أجل تطبيقها كما هي بل من اجل بناء القدرات لدى هؤلاء المسؤولين من أجل اكتشاف المشكلات وابتكار الحلول في بلداتهم.
الرحلة بشكل عام كانت مثيرة وجدولها مكتظ وحفلت بتنقلات كثيرة لكن “الحافلة” التي أقلتنا بين المدن التركية كانت المكان الذي تشكلت فيه العلاقة بين افراد فريق الاستطلاع وهي “المختبر” الذي تمت فيه مراجعة الزيارات وتقييم المشاهدات، لقد كانت الرحلات الطويلة فرصة فعلا لبناء شراكات بين افراد الفريق وتعميقا للتجربة الشخصية لكل منهم. صرت أتذكر قولا لأمير السياحة عندما اجتمع بالفريق قبل يوم من الرحلة، فقد أكد أن هذه الرحلة تستثمر في قيادات وطنية بصرف النظر عن مناصبهم الحالية فهي تعدهم من أجل بناء وطنهم وتطوير مجالات العمل الذي هم مسؤولون عنه، فقد أردف سموه بقوله “أن أحد أهم نتائج هذه الرحلة هو بناء شراكات بين المسؤولين في المملكة وتطوير مشاريع وطنية مشتركة”، والحقيقة أن “الحافلة” كمكان جمعنا لساعات مع بعضنا البعض كانت فرصة للتقارب والتعارف ومراجعة ما شاهدناه من تجارب.
في اليوم الأول وصلنا إلى أسطنبول فجر يوم الأحد 4 يونيو وكان من الضروري أن ننتقل بسرعة إلى المطار المحلي من أجل السفر إلى أنقرة، لكن كان يجب على الفريق أن يحصل على تأشيرة الدخول من المطار وقد استغرق هذا وقتا قصيرا لكن لا بد من القلق خصوصا وأن الفريق كبير (عدده 27 شخصا) وكان من واجبي أن أتأكد من أن كل افراد الفريق قد أكمل إجراءاته وانتقل إلى قاعة السفر. تستغرق رحلة الطيران من أسطنبول إلى انقرة حوالي 45 دقيقة وقد أمضيناها في الحديث حول برنامج الرحلة وفي أنقرة كان هناك السيد عمر من وزارة السياحة والثقافة التركية في استقبالنا، ويجب أن أنوه هنا بالحفاوة التركية وبتقديرهم لأبناء المملكة، فقد أعدت وزارة السياحة التركية برنامجا متكاملا ركز على مقابلة المسؤولين في البلدات التركية لاطلاع الفريق على “التحديات والنجاحات”، وقد رافقنا السيد عمر وبعض موظفي الوزارة في جميع تنقلاتنا خلال ايام الرحلة.
لقد كان افراد الفريق مجهدين من رحلة الليل لذلك فقد توقفنا عند أحد الفنادق بالقرب من المطار كي يستريح الفريق قبل حفل الغداء في الساعة الثانية ظهرا. فريق الاستطلاع كان لتوه يتعرف على بعضه البعض وكان من الضروري أن يأخذ وقته من أجل التعارف، على أن حفل الغداء الذي أعدته لنا وزارة السياحة التركية كان هو البداية فقد كان المطعم يطل على واد قامت بلدية انقرة بتطويره وتحويله إلى حديقة غناء وكانت الفرصة سانحة كي نتحدث عن مفهوم التطوير وماذا يعني التخطيط العمراني وكيف يمكن أن نتبنى قرارات تكون فعلا مؤثرة وقابلة للتنفيذ. والمحافظة على التراث العمراني أصلا تعتمد على هذه المفاهيم التخطيطية بشكل كامل.
في نفس اليوم عدنا إلى الفندق وأخذنا شنطنا واتجهنا إلى المطار من أجل الذهاب إلى مدينة “ماردين” التي تقع في أقصى الشرق التركي وقد استغرقت الرحلة حوالي ساعة ونصف ووصلنا في العاشرة مساء وسكنا في فندق “الهيلتون كونراد”، وقبل وصولنا للفندق كان محافظ “ماردين” قد استقبلنا في المدينة القديمة واقام مأدبة عشاء على شرفنا. اليوم الأول كان حافلا بمعنى الكلمة وكان بالنسبة لفريق الاستطلاع بداية “الفضول المعرفي” الذي كانت تهدف له هذه الرحلة، وقد تحقق ذلك.
جريدة الرياض